السعودية تعود إلى سوريا: "حِكمة" ما بعد الفشل العسكري

للاشتراك في خدمة واتساب👇 https://chat.whatsapp.com/JBByh5OoVA35AjHiNtclta

 فتحت زيارة فيصل المقداد إلى السعودية كوّة كبرى في مسار عودة العلاقات السورية – العربية. فالرياض لها تأثير كبير على بقية الأنظمة وهي باستقبالها رأس الدبلوماسية السورية تكون قد وضعت خلفها كل آمالها السابقة بتغيير في دمشق، التي بدورها ليست مستعجلة على الانفتاح "بالجملة" على "الأشقاء" العرب
sadawilaya.com
في مقابلته مع قناة "روسيا اليوم" إبان زيارته إلى موسكو منتصف شهر آذار/مارس الماضي، أعلن الرئيس السوري، بشار الأسد، أن السعودية لا تتدخل في الشأن السوري الداخلي، ولم تدعم أياً من الفصائل المسلحة. في المقابلة نفسها، عبّر الأسد عن رفضه لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من دون إجراءات ميدانية تركية. والعبارة الأخيرة تُتَرجَم بتعهّد علنيّ بسحب الجيش التركي من الأراضي السورية التي يحتلها. هذان الإعلانان يمرسان خطين عريضين للمقاربة السورية لـ"المصالحات" التي انطلقت في منطقة غرب آسيا، وحقّقت تقدماً كبيراً قبل يومين باستقبال الرياض وزيرَ الخارجية السوري فيصل المقداد.

sadawilaya.com
الرئيس السوري أراد في مقابلته طي صفحة العداء مع النظام السعودي سياسياً، بعدما خرجت الرياض عسكرياً من الميدان السوري.
سبق للسعودية أن تصدّرت الجهود الدولية والإقليمية لتسليح جماعات المعارضة السورية، الإخوانية والسلفية والقاعدية، منذ العام 2012 تحديداً، بحسب ما كشفه رئيس الوزراء القطري السابق، حمد بن جاسم آل ثاني، لبرنامج "الصندوق الأسود" على قناة "القبس" الكويتية في أيار 2022. حينذاك، أراد آل ثاني التملّص من مسؤولية بلاده عن الشراكة مع منظومة حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في تسعير الحرب السورية وتمويلها وتسليحها، بهدف تدمير سوريا وإسقاط الدولة فيها. قال آل ثاني إن الملك السعودي عبدالله طلب من قطر، عام 2011، قيادة عمليات دعم المعارضة السورية المسلحة. في ذلك العام، أنشأت الدول المتحالفة غرفتي عمليات، واحدة في الأردن، وأخرى في تركيا، لتنسيق العمل في ما بينها.
كانت السعودية حاضرة في الغرفتين إلى جانب الولايات المتحدة وقطر والأردن وتركيا. ثم، في العام 2012، وبعد تولي بندر بن سلطان آل سعود رئاسة الاستخبارات في بلاده، قرر أن يقود بنفسه عملية إسقاط الرئيس الأسد. وعلى ذمة آل ثاني، وضع بندر خططاً عسكرية لاحتلال دمشق والقصر الجمهوري، وطلب لأجل ذلك مبلغاً خيالياً من المال وصل إلى 2 تريليون دولار (نعم، 2000 مليار دولار).
وبعيداً عما كشفه آل ثاني، كات لدى سوريا وحلفائها معلومات موثقة عن دور بندر بن سلطان في الغزوات التي تعرّضت لها العاصمة السورية دمشق في النصف الثاني من العام 2012، وصولاً إلى منتصف العام 2013، حين تيقّنت الدول التي تقود جماعات المعارضة السورية المسلحة، بما فيها الجماعات المصنّفة إرهابية، من أن إسقاط الأسد ليس أمراً هيناً.
sadawilaya.com
يوماً بعد آخر، بدأ الدور السعودي يخفت في سوريا، لا لرغبة من الرياض بخفض التوتر، بل بسبب الهزائم الميدانية التي مُنيت بها الفصائل المدعومة منها، في وسط سوريا وجنوبها، وخاصة بعد تفرّق شمل تلك الجماعات. تلك الهزائم تُوِّجت بمقتل زهران علوش (25/12/2015)، قائد ما كان يُسمى "جيش الإسلام" في ريف دمشق، وهو الفصيل الذي تمّ شطبه ميدانياً على يد الجيش السوري وحلفائه، بعدما كان رأس الحربة السعودية الموجهة نحو عاصمة بلاد الشام.
الهزيمة الميدانية لفصائل السعودية في سوريا، تزامنت مع تغييرات على مستوى رأس الحكم في الرياض، وصولاً إلى تولي محمد بن سلمان زمام السلطة، وتركيزه جهود بلاده التسليحية والمالية على الحرب على اليمن. لكن ذلك لم يعنِ انسحاب السعودية تماماً من الميدان السوري. ففي شرق الفرات، كانت الأموال السعودية تساهم في تدعيم وجود جيش الاحتلال الأميركي. وتولى الوزير السعودي السابق، ثامر السبهان، تنسيق العلاقة مع قوات الاحتلال الأميركي وشيوخ عشائر في تلك المنطقة (2017 – 2019). حينذاك، أمّنت السعودية الأموال لاستمرار الاحتلال الأميركي، وهو ما كشف عنه الرئيس دونالد ترامب عندما قال صراحة، عام 2018، إن السعودية مهتمة بقراره سحب قواته من سوريا (وهو القرار الذي تراجع عنه لاحقاً) وأن عليها أن تدفع بدل استمرار الاحتلال، علماً بأن محمد بن سلمان كان قد صرّح قبل ذلك بأن على الولايات المتحدة البقاء في سوريا مدة طويلة لمواجهة الجهود الإيرانية في غرب آسيا.
sadawilaya.com
بعد خروج الرئيس الأميركي دونالد ترامب من البيت الأبيض (2021)، دخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خط الوساطة بين سوريا والسعودية. كان محمد بن سلمان قد وصل قبل ذلك إلى قناعة مفادها أن الاستثمار في الحرب السورية لم يعد مجدياً لبلاده. ولي العهد السعودي توصّل إلى اكتشاف حدود قوته، في اليمن أولاً، وفي سوريا ثانياً، وتجاه إيران ثالثاً. دخل في مفاوضات مع الأخيرة في العراق وعُمان، وبدأت الرياض تفعّل تواصلها الأمني مع دمشق، لكن من دون طَرق باب العلاقة السياسية.
sadawilaya.com
في العام 2022، وضعت السعودية على الطاولة سياسة "تصفير المشاكل"، بعدما فشلت في إحداث تغييرات سياسية كبرى بالطرق العسكرية، واكتشفت أن استمرارها بالعداء مع جيرانها يتناقض مع مشاريعها الاقتصادية والسياحية الكبرى. دخلت في هدنة مع أنصار الله في اليمن، وتلقّفت الوساطات العربية والصينية والروسية مع إيران. بعد ذلك، كثّف الرئيس الروسي من مساعيه لتحقيق المصالحة السورية – السعودية. استجاب بن سلمان، الذي يريد إقفال ملف الحرب السورية، ومحاولة احتواء دمشق، على أمل نيل تأثير ما على الأسد، ولو كان طفيفاً.
sadawilaya.com
الرئيس السوري، الراغب بتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالحات العربية، يرى أن خروج السعودية من دعم الجماعات المسلحة، ووقفها تمويل الاحتلال الأميركي وسواه، يعني طي صفحة الماضي معها، وفتح الباب لإعادة العلاقة مع الرياض إلى ما كانت عليه قبل الحرب في بلاده. وبالفعل، قامت الرياض بخطوات إيجابية تجاه دمشق، أبرزها الدعم الإنساني العلني بعد زلزال 6 شباط 2023، فضلاً عن "دعم سعودي غير مُعلن" وصل إلى الدولة السورية، بحسب مصادر سياسية قريبة من دمشق وأخرى قريبة من الرياض.
بالنسبة لسوريا، تعدّ العناوين التي وردت في البيان الختامي السوري السعودي المشترك في جدة، عقب زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إليها يوم 1242023، بـ"التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدة سوريا، وأمنها، واستقرارها، وهويتها العربية، وسلامة أراضيها"، هو نفس ما سعت إليه دمشق منذ بداية الحرب.
sadawilaya.com
لم تخفِ أي من الدول التي دعمت الفصائل المسلحة التي حاربت الدولة السورية على مدى سنوات دعمها لهذه الجماعات بعناوين عدة، كان الأبرز فيها العنوانان الديني والعرقي اللذان أفرزا تدريجياً – بدعم أميركي وقطري وتركي (ودعم سعوديّ لم يستمر)، "كانتونات" على ضفاف الدولة: الأول كردي أمسك بمنابع النفط، والثاني "إخواني" دخلت تركيا لتثبيته على طول شريط حدودها مع سوريا من ادلب حتى ريف الحسكة.
عملياً، تحتاج "الكنتونات" إلى رعاة أجانب، يشكلون مظلة سياسية ومادية – عسكرية لها حتى تتمكن من تثبيت واقعها، وقد أمّنت واشنطن وتركيا والسعودية (قبل انسحاب الأخيرة من هذه الرعاية) هذه المظلة كلٌ من جانبه لحلفائه الميدانيين في الشرق والشمال السوريَّين، ما صعّب على الدولة السورية إعادة سيطرتها على هذه البؤر.
sadawilaya.com
في هذا السياق، بدا البيان الختامي للقاء جدة "تصويبياً" فيما يتعلق بوحدة الأراضي السورية، حيث ورد في نصه تأكيد "الجانبان على أهمية تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بكافة أشكاله وتنظيماته وضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء تواجد الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري".
ويأتي تضمين الرياض لهذه العبارات ضمن البيان المشترك، في ظل سياسة سعودية لا تزال تجاهر بالعداء لتنظيم "الإخوان المسلمين" وتفرعاته التي انتشرت في سوريا وصبّت في النهاية عند شريط الحدود السورية – التركية شمالاً، رغم انسحاب سياسة "صفر مشاكل" السعودية على نظام رجب طيب إردوغان في أنقرة، وهو ما ظهر على شكل خمسة مليارات دولار أودعتها الرياض في المصرف المركزي التركي بين موعدَي الزلزال والانتخابات الرئاسية التركية.
sadawilaya.com
الحديث عن "وحدة الأراضي السورية" يأتي أيضاً في ظل التمايز السعودي المستجد عن السياسة الأميركية في المنطقة حيث تعدّ واشنطن الداعم الأكبر للقوات الكردية الانفصالية في الشرق السوري.
يضيف البيان السوري – السعودي المشترك أن الجانبين بحثا الخطوات اللازمة لتحقيق "تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية تنهي كافة تداعياتها". تؤشر عبارة "التداعيات" إلى اعتبار جميع ما نشأ عن الأزمة من تغييرات سياسية وميدانية "مستجد" يجدر انهاؤه لتحقيق تسوية سياسية شاملة، وهو ما يضع الرياض إلى جانب "الرؤية" السورية لحل الأزمة ويعدّ تقدماً كبيراً لا بل مفصلياً في الموقف السعودي من الأزمة السورية.
sadawilaya.com
ليست عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وحساب أصوات المعترضين بذات أهمية عودة العلاقات الثنائية السورية السعودية إلى مسارها الطبيعي، وهو ما عبّر عنه الرئيس السوري بشار الأسد خلال مقابلته مع "روسيا اليوم" بالتشديد على أولوية عودة العلاقات الثنائية في المرحلة الأولى. وفي هذا الإطار، تؤكد مصادر سورية أن دمشق لا تعتبر العودة إلى الجامعة العربية هدفاً بذاته، ولا ترى فيها ما يستحق دفع أثمان سياسية له. وهي مقتنعة بأن عودها حتمية، إنْ لم يكن في الدورة المقبلة من القمة، ففي التي تليها، ودمشق ليست مستعجلة لذلك. هذه العودة ليست هدفاً، بل نتيجة طبيعية لعودة العلاقات الطبيعية مع الدول العربية.
لم يأتِ بيان جدة على ذكر أي من أشكال مسارات الحل السياسي التي طُرحت للأزمة السورية سابقاً، مثل "جنيف" و "آستانا" والقرار الأممي "2254"، بل اعتبر أن الحل يبدأ من معالجة "تداعيات" الأزمة وإنهاء وجود "المليشيات المسلحة والتدخلات الخارجية" وهو نفسه المنطلق السوري الذي لطالما اعتبر أن الحوار يبدأ مع "الدول الداعمة" وليس مع ممثلي الفصائل المسلحة.
أقفلت زيارة المقداد إلى جدة، قبيل يومين من انعقاد اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي فيها، للبحث في مسألة عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، الباب جدياً أمام المزايدات في هذا الملف، وأفاد ديبلوماسي عربي تحدث لـ"فرانس برس" أن هناك احتمالاً بأن يحضر المقداد الاجتماع "لعرض وجهة النظر السورية".
جنّب "الخط الساخن" بين دمشق والرياض المنطقة الكثير من الأزمات في السابق، عودة الحرارة إلى هذا الخط تؤشر على رغبة الطرفين بخفض منسوب الاصطفاف والاستقطاب في المنطقة، وإيجاد حلول مشتركة تذكّر بـ"اتفاق الطائف" (عام 1989) الذي وضع حداً للحرب الأهلية اللبنانية.
المصدر : admin
المرسل : الناشر الناشر